بسم الله الرحمن الرحيم
أعلم أني لست خير من يتحدث في هذا الموضوع، وأعلم أنك-أخي القارئ-قد تمل أو تتوه بين هذه الكلمات، لكن آمل أن تتفضل بقراءة المقال إلى آخره، وبعدها لن أطلب منك مدح المقال، فقط أود منك أن تفتح آفاقك في الموضوع وتأخذه بجدية، وتبحث عن التصور السليم تجاهه.
بعد ظهور منصات الإعلام الجديد وتوفرها في يد كثير من الناس، صار أغلبهم مشاركا في صناعة ما يظهر في هذه المنصات، وهذا ما دفع كُثُراً لاقتحام هذا العالم، وارتقاء سلَّم الظهور عبر هذه المنصات، التي تعتبر جيلا جديدا من وسائل الإعلام.
ولأن الشباب - في بلدان عالمنا الإسلامي وفي المنطقة العربية - يشكلون شريحة كبرى من السكان، ولأن هذه المنصات وُلِدَتْ معهم تقريبا، كان لهم نصيب وافر من الظهور عبر هذه المنصات، مما شكل ظاهرة حَرَّكَت المياه الراكدة ودفعت بالكثير من الشباب لأن يَتَأَسَّوْا بمن سبقهم في هذا العالم الافتراضي.
ولم يكن الشباب في هذه المنصات بعيدين عن الواقع وعن المؤثرين فيه، فضلا عن أن يبتعدوا عن عالم الأفكار والحروب الطاحنة التي نراها فيه، وهي التي تمثل المعارك الفاصلة لغيرها، فمن يسيطر على أفكار الناس وعقولها قطعا سيسيطر على الجيوب والأسماع والأبصار والأوقات.
وعندما يشرع أيُّ شاب في الظهور على هذه الوسائل من الطبيعي أنه سيقدم محتوى ما، حتى لو كان تافها، وغالبا ما سيحدد هذا المحتوى مصير الشاب فكريا وإعلاميا، بمعنى: أن هذا الشاب قد يستمر في هذه الوسائل كما بدأ بجهوده الشخصية، لكن كثيرا ممن برزوا عبر هذه الوسائل تَلَقَّفَتْهُم مؤسسات إعلامية لها خطها الفكري الخاص، وهي ترى في الشباب المؤثر في منصات الإعلام الجديد واجهة رائعة، فاستقدمتهم لأروقتها، وصاروا جزءا منها، وجنودا في جيوشها ليحققوا مآربها وغاياتها.
وإن السيناريو الذي قصصناه في الأسطر السابقة ينطبق على المؤسسات الإعلامية بمختلف أيدولوجياتها، ولأن المؤسسات المتبنية لما يخالف هويتنا كانت سبَّاقة في احتضان الشباب الذين ظهروا في هذه المنصات، صار كثير منهم جزءا من هذه المؤسسات، حيث أصبحوا خادمين لأجندتها.
ولأن هذه المؤسسات تأخذ حيِّزاً لا بأس به من السيطرة على الإعلام وعلى الرأي العام، فمن يتابع هذا المشهد سيصيبه اليأس من أي تغيير أو سعي لمواجهة التفاهة في الإعلام، وسيدفعه هذا لأن يقول: إن أي صعود أو ظهور إعلامي للشاب سيكون بداية طبيعية لكارثة كبرى يصنعها لنفسه وبنفسه، بحيث تكون الخلاصة: (لا نتعب أنفسنا بمحاولة التغيير وصناعة إعلام مغاير للشباب، فالمحاولات إلى فشل حتمي، والواقع خير دليل).
على الشاطئ الآخر، وفي رحاب ما يمكن تسميته ب(الإعلام المتديّن) مع التحفظ على هذه التسمية، لأن الأصل في أي مجتمع مسلم أن يكون كل الإعلام فيه متدينا وإسلاميا، يستقي مبادئه من ثوابت ديننا، لكن لمَّا عمَّت البلوى-كما يقول علماؤنا-وصار أغلب الإعلام أسيرا للنموذج الغربي، صرنا مضطرين لأن نطلق على من يحاول صناعة وسط إعلامي مختلف (إعلاما متديّنا).
الأهم من ذلك، وعودا على ما سبق، فعلى الشاطئ الآخر ظهرت التساؤلات حول البدائل التي ينبغي طرحها في مقابل ما يظهر في الإعلام اليوم مما ينافي قيمنا خصوصا ما يقدمه شباب، وهذه التساؤلات أنتجت محاولات من مؤسسات (الإعلام المتديّن) للظهور بأعمال تنافس ما ينشره الإعلام على الشاطئ التابع للنموذج الغربي، لكن بمحتوى ومضمون ينبع من مبادئنا وهويتنا.
في وسط هذا المشهد كأني أرى محاولة الجمع هذه لا تخلو من تناقض، فمنافسة تلك المؤسسات في إنتاج أعمال توازي الصنعة الإعلامية والتأثير عندهم سيشوبه استيراد شيء من النموذج الغربي دون تشريح وإدراك لما يحتويه، وهذا سينعكس سلبا على الصورة النهائية للعمل الإعلامي، فهو وإن كان يتبنى قيم المجتمع وهويته، لكن التأثر والتبعية للنموذج الغربي سيظل واضحا في العمل.
لكن التَّكلف في طرح الموضوع والنَّرْجِسِيَّة في الهروب من النموذج الغربي بشكل يُعْجِزُنَا عن الخروج بعمل يرسخ قيمنا دون التأثر بالقالب الغربي أمر مرفوض، لذا ينبغي أن تكون الموازنة هنا دقيقة بين السعي للاستقلالية عن النموذج الغربي وبين تقدير الواقع وملابساته.
ومع ظهور المحاولات المغايرة من الإعلام المتدين ظهرت تساؤلات وشكوك حول هذه المحاولات:
-هل هي أعمال بريئة لإظهار صورة مغايرة عن الشباب تختلف عما يصدره الإعلام المتأثر بالنموذج الغربي؟
-أم هي مجرد مسرحية يَحْبِكُ السيناريو فيها قادة الأيدولوجيا لمؤسسات الإعلام المتدين، ويلعب أدوارها شباب لا ناقة لهم في صراع الإعلام ولا جمل؟
-وما مدى نجاح تجربة خروج شباب في قالب غير القالب الشائع عنهم (شباب تافه-لا يبالي بمهمات الأمور والقضايا)؟
سيقول الكثيرون أن الدخول في هذه الدوامة انعكاس للصورة في الإعلام المتأثر بالغرب، حيث إن غاية ما في الأمر أنه مجرد تجنيد إعلامي لصالح التيار الإسلامي الذي اسْتُهْلِكَتْ إعلاميا وجوهه التقليدية، وصار يبحث عن وجوه شبابية تتبنى أجندته لتقدمها للمجتمع حتى تتم "أَسْلَمَة المجتمع" في قالب شبابي يلقى الرَّوَاجَ والقبول.
وسيقول آخرون أن الخروج بأعمال إعلامية كهذه هو محاولة فاشلة لتقديم نسخ غربية من البرامج الممتعة للناس في قالب "يلائم خصوصيات المجتمع"، وهذا ما سيظهر لنا أعمالا "مُخَنَّثَة"، لا هي أعمال بنموذج إعلامي غربي، ولا هي أعمال تلتزم كليا بما يتوافق مع مجتمعنا المحافظ التقليدي.
حَقٌّ لكل هؤلاء أن يتساءلوا، فليس لأحد أن يُحَجِّرَ على العقول ، شرط أن تكون التساؤلات نابعة من نفوس تؤمن بأهمية أن يكون للمسلم دور فعال في المحيط من حوله، وأن يكون باحثا بصدق عن إجابات لهذه الأسئلة، أما أولئك الذين ليس لهم هم إلا التَّشْغيب على من يجتهد في سبيل تقديم الأفضل ويقفون في معسكر من يريدون هدم قيمنا، ثم يتسترون بالحياد والمصداقية، علينا أن لا نلتفت لادعاءاتهم المُثَبِّطَة.
لكن عدم الالتفات لمن يُشَغِّبُ على الجهود المبذولة لا يعني أن نصم آذاننا عن النصح والتساؤلات، خصوصا أن تجربة الإعلام المتدين في تقديم قالب جديد من الأعمال الشبابية ما زالت حديثة العهد، ولم تنضج بعد، ولذا فإن التحدي هو الإصرار على مُقَارَعَة الإعلام التافه، والسعي للتحسين والتطوير دون تبعية للقالب الغربي في الإعلام، والاستمرار في الابتكار والإبداع، فعقولنا لا تقل إبداعا وذكاء عن عقول من يُسَيِّرُ الإعلام المحارب لهويتنا.
أما شبابنا الطامحون في الظهور عبر هذه المنصات فأقول لهم: من الجيد أن تؤثروا في من حولكم، خصوصا حينما يكون لكم رصيد معرفي في ما ستتحدثون عنه، لكن تذكروا جيدا أن الظهور إن لم يكن لغاية نبيلة ولغير وجه الله-تعالى-فضريبته ستكون في الدنيا والآخرة، نسأل الله الإخلاص والعفو والعافية.
ختاما: يجب أن نتمسك بالأمل في استعادة هويتنا والتأثير في مجتمعاتنا، وأن لا ندع اليأس والواقع الأليم يسيطر على عقولنا وقلوبنا.
جعلني الله وإياكم ممن يسعى لنفع من حوله ويترك أثرا طيبا في المجتمع والأمة
والحمد لله في البدء والختام.
الثلاثاء، 25 أبريل 2023
وسط المعترك.. الشباب في وسائل الإعلام
عزام البشير محمد بحر
الثلاثاء 29 شعبان 1444ه
21 مارس 2023م
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)